الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)}.اعتراض باستئناف ابتدائي أثاره مضمون جملة {أفحسب الذين كفروا}.. إلخ. فإنهم لما اتْخذوا أولياءَ مَن ليسوا ينفعونهم فاختاروا الأصنام وعبدوها وتقربوا إليها بما أمكنهم من القُرب اغترارًا بأنها تدفع عنهم وهي لا تغني عنهم شيئًا فكان عملهم خاسرًا وسعيهم باطلًا.فالمقصود من هذه الجملة هو قوله: {وهم يحسبون} إلخ. وافتتاح الجملة بالأمر بالقول للاهتمام بالمقول بإصغاء السامعين لأنّ مثل هذا الافتتاح يشعر بأنه في غرض مُهمّ، وكذلك افتتاحه باستفهامهم عن إنبائهم استفهامًا مستعملًا في العَرض لأنّه بمعنى: أتحبون أن نُنبئكم بالأخسرين أعمالًا، وهو عرض تهكم لأنه منبئهم بذلك دون توقف على رضاهم.وفي قوله: {بالأخسرين أعمالًا} إلى آخره... تمليح إذ عدل فيه عن طريقة الخطاب بأن يقال لهم: هل ننبئكم بأنكم الأخسرون أعمالًا، إلى طريقة الغيبة بحيث يستشرفون إلى معرفة هؤلاء الأخسرين فما يروعهم إلاّ أن يعلموا أنّ المخبر عنهم هم أنفسهم.والمقول لهم: المشركون، توبيخًا لهم وتنبيهًا على ما غفلوا عنه من خيبة سعيهم. ونون المتكلّم المشارك في قوله: {ننبئكم} يجوز أن تكون نون العظمة راجعة إلى ذات الله على طريقة الالتفات في الحكاية.ومقتضى الظاهر أن يقال: هل ينبئكم الله، أي سينبئكم ويجوز أن تكون للمتكلّم المشارك راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الله تعالى لأنه ينبئهم بما يوحَى إليه من ربّه.ويجوز أن تكون راجعة للرسول وللمسلمين.وقوله: {الذين ضل سعيهم} بدل من {بالأخسرين أعمالًا} وفي هذا الإطناب زيادة التشويق إلى معرفة هؤلاء الأخسرين حيث أجرى عليهم من الأوصاف ما يزيد السامع حرصًا على معرفة الموصوفين بتلك الأوصاف والأحوال.والضلال: خطأ السبيل.شبه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة.والسعي: المشي في شدة.وهو هنا مجاز في العمل كما تقدّم عند قوله: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} في سورة الإسراء (19)، أي عملوا أعمالًا تقربوا بها للأصنام يحسبونها مبلغة إياهم أغراضًا وقد أخطؤوها وهم يحسبون أنّهم يفعلون خيرًا.وإسناد الضلال إلى سعيهم مجاز عقلي، والمعنى: الذين ضلوا في سعيهم. وبين {يحسبون} و{يحسنون} جناس مصحّف، وقد مثل بهما في مبحث الجناس.{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ}.جملة هي استئناف بياني بعد قوله: {هل ننبئكم}. وجيء باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز لئلا يلتبسوا بغيرهم على نحو قوله تعالى: {أولئك هم المفلحون} [البقرة: 5].وللتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من حكم بسبب ما أجري عليهم من الأوصاف.والآيات: القرآن والمعجزات.والحبط: البطلان والدحض.وقوله: {ربّهم} يجري على الوجه الأول في نون {هل ننبئكم} أنه إظهار في مقام الإضمار.ومقتضى الظاهر أن يقال: أولئك الذين كفروا بآياتنا، ويجري على الوجهين الثاني والثالث أنه على مقتضى الظاهر.ونون {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} على الوجه الأول في نون {قل هل ننبئكم} جارية على مقتضى الظاهر.وأما على الوجهين الثالث والرابع فإنها التفات عن قوله: {بآيات ربّهم} ومقتضى الظاهر أن يقال: فلا يقيم لهم.ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء، وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشيء التافه لا يوزن، فشبهوا بالمحقرات على طريقة المكنية وأثبت لهم عدم الوزن تخييلًا.وجُعل عدم إقامة الوزن مفرعًا على حبط أعمالهم لأنهم بحبط أعمالهم صاروا محقرين لا شيء لهم من الصالحات.{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}.الإشارة إما إلى ما تقدّم من وعيدهم في قوله: {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلًا}، أي ذلك الإعداد جزاؤهم.وقوله: {جزاؤهم} خبر عن اسم الإشارة.وقوله: {جهنم} بدل من {جزاؤهم} بدلًا مطابقًا لأن إعداد جهنم هو عين جهنّم.وإعادة لفظ جهنم أكسبه قوّة التأكيد.وإما إلى مقدر في الذهن دل عليه السياق يبينه ما بعده على نحو استعمال ضمير الشأن مع تقدير مبتدأ محذوف.والتقدير: الأمر والشأن ذلك جزاؤهم جهنّم.والباء للسببية، و ما مصدرية، أي بسبب كفرهم.{واتخذوا} عطف على {كفروا} فهو من صلة ما المصدرية.والتقدير: وبما اتّخذوا آياتي ورسلي هزؤًا، أي باتخاذهم ذلك كذلك.والرسل يجوز أن يراد به حقيقة الجمع فيكون إخبارًا عن حال كفار قريش ومن سبقهم من الأمم المكذبين، ويجوز أن يراد به الرسول الذي أرسل إلى الناس كلهم وأطلق عليه اسم الجمع تعظيمًا كما في قوله: {نجب دعوتك ونتبع الرّسل} [إبراهيم: 44].والهزُؤُ بضمتين مصدر بمعنى المفعول.وهو أشد مبالغة من الوصف باسم المفعول، أي كانوا كثيري الهزؤ بهم. اهـ..قال الشنقيطي: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)}.المعنى: قل لهم يا نبي الله: هل ننبئكم أي نخبركم بالأخسرين أعمالًا، أي بالذين هم أخسر الناس أعمالًا وأضيعها. فالأخسر صيغة تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم معاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو طاعوه. وقوله: {أعمالًا} منصوب على التمييز:فإن قيل: نبئنا بالأخسرين أعمالًا من هم؟كان الجواب- هو الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وبه تعلم أن {الذين} من قوله: {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} خبر مبتدأ محذوف جوابًا للسؤال المفهوم من المقام، ويجوز نصبه على الذم، وجره على أنه بدل من الأخسرين، أو نعت له، وقوله: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي بطل عملهم وحبط، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد! كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، وقوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] الآية. وقوله: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله.والتحقيق: أن الآية نازلة في الكفار الذيت يعتقدون أن كفرهم صواب وحق، وأن فيه رضى ربهم، كما قال عن عبدة الأوثان: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3]، وقال عنهم {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18]، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تصلى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] الآية، على القول فيها بذلك. وقوله تعالى في الكفار: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 37] والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105] الآية. فقول من قال: إنهم الكفار، وقول من قال: إنهم الرهبان، وقوله من قال إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنَّبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية. وقد رروى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن {الأخسرين أعمالًا} في هذه الآية هل هم الحررورية؟ فقال لا هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليهم وسلم. وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا لا طعام فيها، ولا شراب. والحروية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعيد يسميهم الفاسقين. اهـ. من البخاري. وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعرفون بالحورويين معناه أ، هم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا، لأنهم يرتكبون أمرًا شنيعة من الضلال، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة؟، فقد ضل سعيهم وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين. لأن العبرى بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قدمنا إيضاحه وأدلته.وقوله في هذه الآية الكريمة: {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف: 104] أي بطل واضمحل. وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات:الأول- الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل. كالذهاب عن الإسلام إلى الكفر. وهذا أكثر استعمالاته في القرآن. ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7]، وقوله: {وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل} [المائدة: 77].الثاني- الضلال بمعنى الهلاك والغيبة الاضمحلال، ومنه قول العرب: ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [القصص: 75] أي غاب واضمحل، وقوله هنا: {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي بطل واضمحل، وقول الشاعر:أي عن الحي الذي غاب واضمحل، ومن هنا سمي الدفن إضلالًا. لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض، فيضل فيهما كما يضل السمن في الطعام. ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان: فقوله مضلوه يعني دافنيه في قبره. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] الآية. فمعنى {ضَلَلْنَا فِي الأرض} أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها لغابت واستهلكت فيها.الثالث- الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى} [الضحى: 7] أي ذاهبًا عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي. وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب: {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [يوسف: 95] أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك، وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] أي نذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه، بدليل قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}، وقوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] ومن هذا المعنى قول الشاعر: فقوله أراها في الضلال أي الذهبا عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغى بها بدلًا، والواقع بخلاف ذلك.وقوله في هذه الآية: {وهم يحسبون} أي يظنون. وقرأه بعض السبعة بكسر السين، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مرارًا في جميع القرآن. ومفعولا حسب هما المبتدأ والخبر اللذان علمت فيها {أن} والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم. وقوله: {صنعًا} أي عملًا وبين قوله: {يحسبون}، {ويحسنون} الجناس المسمى عند أهل البديع تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقًا بين الكلمتين، كقول البحتري: فبين المغتر والمعتز الجناس المذكور.{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}.وقوله في هذه الآية الكريمة: {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105] ألآية، نص في أن الكفر بآيات الله ولقائه يحبط العمل، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًا، كقوله تعالى في العنكبوت {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: 23] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا، وسيأتي بعض أمثل لذلك قريبًا إن شاء الله.وقوله في هذه الآية الكريمه: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] فيه للعلماء أوجه:أحدهما- أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم، بل لم يكم لهم إلا السيئات، ومن كان كذلك فهو في النار، كما قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 103-104]. وقال: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 8]. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم} [الأعراف: 9] الآية، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 8-11]. إلى غير ذلك من الآيات. وقال بعض أهل العلم. معنى {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم، وهو أنهم بسبب كفرهم. وذلك كقوله عنهم: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، أي صاغرين أذلاء حقيرين، وقوله: {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18] وقوله: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم.وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن. لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة. قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن عبد الله. حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لياتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» وقال- «اقرءوا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}» وعن يحيى بن بكير، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد مثله اهـ. من البخاري.وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم في صحيحه، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة. وفيه دلالة على وزن الأشخاص. وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه: وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه. لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها على المكارم. بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية، المبتغى به الترفه والسمن.وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين» ومن حديث عمران بن حصين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيركم قرني ثم الذين يلونهم»- قال عمران. فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- «ثم إن من بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» وهذا ذم. وسبب ذلك: أن السن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن، والاسترسال مع النفس على شهواتها. فهو عبد نفسه لا عبد ربه. ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام. وكل لحم تولد من سحت فالنار أولى به. وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال: {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم. ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فإين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام. ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائمًا، وليله نائمًا اهـ. محل الغرض من كلام القرطبي. وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النًّبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله يبغض الحبر السمين» فيه نظر، لأنه لم يصح مرفوعًا، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب. وما ذكر من ذم كثرة الأكل والسرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة «وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه». اهـ.
|